الشباب الإسلامي المعاصروضــــرورةالاجتهـــــــاد الدعــــــــويالدكتور يونس صوالحي المشرف العام على مكتبالندوة بماليزيا وأستاذ مساعد في الجامعةالإسلامية العالمية بماليزيا المقدمة:
ما من شك في
أن آمال الأمة معلقة على الشباب المسلم بوصفه الطاقة التي تستخدم في إحداث التغيير
المنشود للواقع الراهن. ولا غرو أن نجد الشعوب والأمم تعتمد على هذه الطاقة طلبا
للرقي والرفعة والسيادة. ولما كان الشباب المسلم بما يحمل من عقيدة صافية ووعي
إسلامي رشيد، بهذه المكانة السامية والأهمية القصوى، توجب تكوينه وتأهيله ليضطلع
بمهمة التغيير التي نصب نفسه مسؤولا عن القيام بها.
إلا أن
المتأمل في مسيرة العمل الإسلامي بمختلف أطيافه يجد شبه انفصام بين الدعوي
والشرعي، وبين الدعوة والفقه، وكأنهما شيئان منفصلان. ولو راجعنا مناهج التكوين
التي يتربى عليها كثير من الدعاة لوجدنا أنها تعاني من أزمة تكوين الداعية الفقيه
المجتهد، حتى أن بعض كبار الدعاة لا يتحرج أبداً في البوح بأنه داعية وليس فقيها،
وكأن الدّعوة قاصرة على المواعظ والترغيب والترهيب. ولذلك تحاول هذه الورقة البحث
في إشكالية الانفصام بين الدعوي والشرعي، وسبل تكوين الداعية الفقيه الذي يدعو
الناس للطريق الصحيح ثم يبين لهم الحلال والحرام. وستركز الورقة على بعض القواعد
الشرعية ومنهج تطبيقها في المجال الدعوي.
الاجتهاد
والأبعاد المرحلية للدعوة:
يعرف
الاجتهاد بأنه "عبارة عن بذل المجهود واستفراغ الوسع في فعل من الأفعال...لكن
صار اللفظ في عرف العلماء مخصوصاً ببذل المجتهد وسعه في طلب العلم بأحكام
الشريعة"2، يبدو هذا التعريف مقتصراً على المجتهد وهو من حصلت له ملكة فقهية
يستطيع بموجبها استنباط الأحكام الشرعية من مصادرها الأصلية. ومع الحرص المتواصل
من طرف العلماء على قصر صفة الاجتهاد على من استقل بأصول شرعية، وتمكن من محالها،
إلا أن هذا الحرص كانت له انعكاسات على النظر الاجتهادي في النوازل والمستجدات
التي تعِنّ للناس من حين لآخر.
وكما حصل
انفصام بين السلطة العلمية والسلطة السياسية في التاريخ الإسلامي بعد ظهور الملك
العضوض، وكذلك حصل هنالك انفصال بين المجتهدين والدّعاة، أي انفصال السلطة الشرعية
عن السلطة الدعوية. بل حصل هنالك شرخ في السلطة الدينية، فظهر الفقهاء والمفسرون
والمحدثون والوعاظ كسلطات مستقلة ينأى بعضها عن بعض.
وقد أنبأنا
التاريخ الإسلامي عن نماذج فذّة استطاعت أن تحافظ على التكامل المعرفي للداعية
المجتهد بالرغم من الانفصال الحاصل بين السلطات والمرجعيات الدينية.
فهذا سلطان
العلماء العز بن عبد السلام وابن تيمية الداعية المجاهد المجتهد، والشاطبي ناصر
السّنة وقاصم البدعة، والشوكاني الداعية الذي دعا إلى تجديد النظر الفقهي حتى يكون
الفقه موجها لأفعال المكلف في معاملاته وعباداته ودعوته.وبالرغم من سطوع شمس هؤلاء
الدعاة المجتهدين الذين جمعوا بين الفقه الشرعي والفقه الدعوي، إلا أن رحم الأمة
اليوم عجز عن إنجاب أمثالهم اللهم إلا بعض الأفذاذ الذين ترسخوا في العلم والدعوة
تحت راية الحركات الإصلاحية المعاصرة .
أما في العصر
الحديث، فإن الأزمة أصبحت ذات شقين، أزمة في إيجاد المجتهد الفقيه الذي تعزى إليه
مهمة الفتوى واستنباط الأحكام الشرعية من أدلّتها التفصيليّة، وأزمة إيجاد
الدّاعية الفقيه المتبصّر بمتطلبات المرحلة الدعوية التي يعيش فيها، فضلاً عن
القصور الواضح في التكوين الشرعي الذي يطبع كثيرا من الدّعاة.
ولهذه الأزمة
المزدوجة أسباب نجملها في ما يلي:
1 . ضعف ملكة
الاجتهاد نتيجة عدم الاهتمام بتكوين مجتهدين يضطلعون بمهمة الاجتهاد، أي الاقتصار
على الحفظ واستحضار المعلومات.
2 . قصور
الجامعات والمؤسسات الشرعية عن تخريج نوعية من العلماء يتصفون بقدر من الملكة
الفقهية.
3 . ضعف
البرامج التعليمية الشرعية من حيث عدم قدرتها على التكيف مع المستجدّات،
والاستفادة من التطور الحاصل في المنظومات التربوية الحديثة.
4 . عدم
استغلال آليّات الاجتهاد المرنة والتي لها علاقة بالفعل الاجتهادي والحضاري للأمة
المسلمة وذلك كآليات المصلحة المرسلة والاستحسان والاستصحاب.
5 . تكريس
عنصر الفصل بين البعدين الفقهي والدّعوي في الدراسات الشّرعية. حيث يغلب على
المقررات الفقهية بُعد الحلال والحرام في إطاره الأحادي، أي ما يجب على الفرد فعله
وتجنّبه، ويكاد يغيب البعد الجماعي في الدرس الفقهي، وهو ما أثّر على طالب العلوم
الشرعية حيث تحول إلى حاكم على أفعال الناس، بالحِل أو الحرمة، بدل أن يكون مغيّرا
لها، أي داعية للخير مغيرا للمنكر. وتحول خريج الدراسات الشرعية إلى مفتٍ يذهب
الناس إليه بدل أن يذهب هو إليهم، وهو ما يجعله قابعاً في مكانه لا يسعى إلى تغيير
المنكر والأمر بالمعروف على أرض الواقع بل يقتصر على إقرار المعروف معروفا والمنكر
منكرا، الأمر الذي يخالف قواعد الدعوة وأسسها التي تحتم على الداعية الانتقال إلى
محل المدعو وليس العكس.
وتكاد تكون
الدعوة المعاصرة في بعديها الفردي والجماعي كطائر يطير بجناح واحد، لا يبلغ مقصده
إلا بعد مشقّة أو سقوط متكرر. فكثيراً ما يطفح على سطح الدعوة أناس باعُهم في
الشرع لا يمكنهم من قيادة الجماعة التي ينتسبون إليها. بل إن زادهم في التكوين
الشرعي لا يخرج عن مدارسة بعض الكتب الشرعية وهضم الفتاوى الجاهزة، والتي أصبح
يرجع إليها كما يرجع الباحث إلى دائرة معارف علمية. فانتشر منطق "قال فلان
وقال علان من الفقهاء أو الدعاة" مما جعل الحق يرتبط بالأشخاص بدل أن يحصل
العكس. وبرز على سطح هذا الواقع نموذجان:
النموذج الأول:
الداعية
الفرد صاحب الشخصية الكارزماتية التي تقود الجماعة وتحدد لها أهدافها
واستراتيجياها وقراراتها الحاسمة التي تنعكس على الجماعة كلها سلباً أو إيجاباً.
ولعل أهم مخاطر هذه القيادة ما يلي:
1 . طغيان
الشخصانية على روح الجماعة.
2 . تحول
الولاء للدين إلى الولاء للشخص أوالجماعة أو الحزب، وتتحول هذه الأخيرة إلى غاية
بدلاً من أن تكون وسيلة.
3 . إمكانية
أن يكون القائد ضعيفاً من ناحية التكوين الشرعي، فيلزم الجماعة بما هو مخالف لروح
الشريعة ومقاصدها فضلا عن أحكامها.
4 . في حالة
التمكن الشرعي للقائد الفرد، فإنه سيكرس هذا الاجتهاد الفردي في الوقت الذي يسير
فيه نمط الاجتهاد المعاصر إلى الاجتهاد الجماعي.
النموذج
الثاني:
هو نموذج
الدعوة المؤسساتيّة التي تربط الجماعة بالفكرة الإسلامية بدل ربطها بالأشخاص. إلا
أن قادة هذه المؤسسات غالباً ما ُيختارون بناء على تضحياتهم وثباتهم على مبادئ
الجماعة التي أسسوها، وليس بناء على قدرتهم الاجتهادية لأنهم غير فقهاء فضلاً عن
أن يكونوا مجتهدين.
ولعل ما
تمتاز به هذه المؤسسات الدعوية هي تأسيسها لهيئة شرعية تعنى بالنظر الشرعي واعتماد
موازينه في الحكم على القرارات التي تتخذها قيادة الجماعة. و معظم هذه الهيئات
تتكون من متخصصين في الشريعة الإسلامية وهم أنواع. فمنهم من هو متمكن في الفقه
التقليدي غير متمرس في فقه النّوازل، ومنهم من هو مجتهد في المذهب غير قادر على
التوفيق بين رحابة الشريعة وضيق المذهب، ومنهم من هو مجتهد في الفتوى يختار من الفتاوى
ما يراه مناسباً للقضية المطروحة. ومنهم من له دربة على تكييف المبادئ الشرعية وفق
ضرورات المرحلة، فيقيس ويستحسن وينظر بميزان المقاصد الشرعية وفن استعمالها في
الحكم على المستجدات المعاصرة.
وبالرغم من
أهمية هذه الهيئة إلا أن قراراتها قد لا تكون ملزمة للقيادة الدعوية، خصوصاً إذا
كانت هذه القيادة في منازلة سياسية مع السلطة الحاكمة، حيث تتغلب فيها المعادلات
السياسية وتختلط فيها المعايير وتتسارع فيها الأحداث بدرجة تفقد فيها الحركة
الإسلامية بهيئاتها الشرعية ذلك التّوازن المنشود والاتزان الرشيد والسيطرة على
الأوضاع.
إن ذلك يجعل
من القيادة الدعوية في الواجهة مع الأحداث مما يستدعي أخذ قرارات سياسية سريعة وقد
يتم ذلك بعيداً عن الهيئة الشرعية التي كان يجب رد الأمر إليها.
إن غياب هذه
البعد في بعض الحركات الإسلامية حدا بها إلى اتخاذ موقف كانت مآلاتها وخيمة على الحركة
على وجه الخصوص والدعوة على وجه العموم. كل هذا يحتم على قادة الحركة الإسلامية أن
يحرصوا على الالتزام بقرارات الهيئات الشرعية المخول لها النظر الشرعي في القضايا
التي تحتاج إلى اجتهاد، وهذا يقتضي جعل الاجتهاد وخصوصا الاجتهاد المقاصدي ركيزة
أساسية في الدعوة الإسلامية. إلا أن المتأمل في واقع العمل الإسلامي يلحظ أزمة
تتمثل في ضمور الاجتهاد في صفوف الحركة الإسلامية، بل حتى لدى الهيئات الشرعية،
الأمر الذي نناقشه في العنصر التالي.
أزمة
الاجتهاد الدعوي وآثاره:
سبق وأن
أشرنا إلى أن معظم الحركات الإسلامية وشبابها يعوزهم التكوين الشرعي الدّقيق
والدربة الفقهية اللازمة لمن نصب نفسه آمراً بالمعروف وناهياً عن المنكر. وتظهر
سمات هذه الأزمة في العناصر التالية:
1 . قصور
مناهج التكوين لدى العاملين في الحقل الإسلامي. إذ أن واضعي هذه البرامج قد
يغلّبون جانباً على جانب، فقد يغلب الجانب الفكري على الجانب الشرعي فينشأ العامل
ميالا إلى النظر العقلي بدل التوازن بين النظرين العقلي والشرعي. ومن هنا يتكون
جيل لا يفقه علاقة العقل بالنقل ومجالات استخدام الآليتين في العملية الدعوية.
ويغيب على كثير منهم مدى التناغم بين العقل والنقل، وأن "الأدلة
الشرعية" على حد تعبير الإمام الشاطبي "لا تتنافى ما تقتضيه العقول
السليمة"3. بل إنه يحدث أن يحصل تعارض ظاهري بين العقل والنقل4، أي بين رأي
يراه الداعي يعارض نصاً شرعيا في الظاهر، فيختلط الأمر عليه بسبب جهله بطرق دفع
التعارض بين الرأي والشرع، وكل ذلك يحتاج إلى دربة أصولية يستطيع من خلالها
الداعية أن يتعامل مع النصوص الشرعية ضمن سياقها ومناطاتها العامة والخاصّة.
2 . أما إذا
غلب التكوين الشرعي على النظر العقلي فإن ذلك يسبب أزمات نجملها فيما يلي:
أ.أزمة فقه
الواقع:
وهو ما يجر
الدعوة الإسلامية وشبابها إلى انفصال الحكم عن محله، وغياب البعد الزماني والمكاني
في تنزيل الحكم الشرعي على الواقع. ويعبر الفقهاء والأصوليون عن هذا الأمر في
القاعدة الشرعية المعروفة بـ "لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان"5.
وعبّر عنه ابن قيم رحمه بفهم الواقع6، بل إن الشريعة في تلبيتها لشؤون الأمة تقرر
أحكامها بناء على فقه الواقع، 7 وهو محل اتفاق العلماء.
إلا أن
التعرف على الواقع كما يستعصي على المجتهد إذا لم يخير آلياته فاستعصاؤه على
الداعية أشدّ. ولذلك عانت الدعوة الإسلامية وما زالت تعاني من أزمة تنزيل الأحكام
على الواقع المتغير، بل إن بعض الدعاة يلجأ إلى الجمود على النقولات الحركية التي
تركها هذا الدّاعية أو ذلك المصلح.
يقول الدكتور
فتحي البيانوني: "لو تفهم الناس عامة والدّعاة خاصة هذه القاعدة (أي قاعدة لا
ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان) على حقيقتها لعملوا على تغيير كثير من آرائهم
واجتهاداتهم الدّعوية وغيرها التي قامت على مصالح زمنية متطورة أو أعراف محلية
متغيرة، مما يحقق للدعوة الإسلامية صلتها ومعاصرتها، ويخرج بها عن الجمود في جانب
المناهج البشرية والأساليب والوسائل المتغيّرة"8.
إن أزمة
الدعاة اليوم هي قراءتهم للواقع العام بآليات قديمة تعوزها الدّقة والشمول.
فمازالت الانطباعات العامة للواقع هي التي تطبع الأحكام التي تطلق في تقويم
الواقع، وبناء المواقف المصيريّة تجاهه. ونسي كثير من الدّعاة اليوم أن فهم الواقع
المعاصر يتطلب مقاييس جديدة وآليات علمية دقيقة تنأى بالأحكام عن التعميمات
الافتراضية التي طالما اتهمت الواقع بما ليس فيه، وأسدت إليه خصائص هي أبعد ما
تكون فيه.
وفي القرن
الماضي تم الالتفات إلى فقه الواقع من زاوية سوسيولوجية، وبدأت دعوات جادة لفهم
الواقع باستخدام آليات البحث العلمي المطبقة في العلوم الاجتماعية. فظهرت دعوات
المفكرين المصلحين إلى الاهتمام "بعلم اجتماع ما بعد الاستقلال"9. كما
انطلقت صرخة من المشرق جسّدها الشيخ رشيد رضا ومحمد عبده إلى الالتفاف حول كتاب
الموافقات للإمام الشاطبي الذي يعد بحق المنظّر لعلم مقاصد الشريعة، هذا العالم
الذي يتوخى المصلحة بكامل أنواعها من أجل استنباط الحكم على ضوئها. ولا غرو أن ذلك
لا يتحقق إلا إذا وظفت أدوات علمية اجتماعية تجعل كثيرا من القضايا الاجتماعية
ومنها المصلحة الاجتماعية أمورا قابلة للقياس.
يؤكد الدكتور
جمال الدين عطية أن "هناك صلة بين الحكم التكليفي والواقع، ففي عدة مراحل يقف
الفقيه أو المجتهد أمام الواقع، حيث يستدعي الإعمال الصحيح لقواعد أصول الفقه،
تعرف الواقع، فأول هذه المراحل هي تعرف المجتهد على الواقعة محل الاجتهاد، وهذه
الواقعة الآن لم تعد معاملة بسيطة، وإنما أصبحت ظواهر معقدة، وهذا من صميم عمليات
البحث الاجتماعي التي يتم التوصل إليها بمناهج علم الاجتماع"10.
ولذلك من
المهم اليوم الحديث عن علم الدّعوة السوسيولوجي أو علم الدعوة النفسي أو علم
الدعوة السياسي. ومن الضروري أن تتضمن مناهج التكوين الحركية مضامين من هذا القبيل
حتى تتقن فن فهم الواقع.
ومن الآثار
المدمّرة للدعوة الإسلامية من جراء عدم فقه الواقع هو دخول الحركة في مغالبات
ومطالبات قد تكون أكثر من حجمها وفوق طاقة العاملين. فعدم قراءة الواقع السياسي
واستيعاب طبيعته بآلياته المعتمدة، والغفلة عن كثرة الأفخاخ الموجودة في هذا الحقل
الملغم، قد يفتح شهية بعض العاملين في الدعوة إلى المنازلات السياسية والمنافسة
على السلطة أو المطالبة بإحداث تغيير سريع لأوضاع قد تأخذ عقوداً حتى تتغير.
وكثيراً ما يؤول هذا الأمر إلى صدام ومواجهات وأحيانا أحداث عنف يدفع ثمنها الشباب
الإسلامي الطلائعي وكثير من الأبرياء.
ب. عدم فقه
مآلات الأفعال:
إن أهم ما
يحتاج إليه الشباب المسلم عموماً والعاملين في الحقل الدعوي خصوصاً هو فقه مآلات
الأفعال، ذلك الفقه الذي يمكّن الشخص من إدراك نتائج أعماله اعتماداً على غلبة
الظن القريب من القطع. وحتى يحصل هذا الإدراك لا بد أن يزن العامل أعماله بميزان
الشرع والواقع ورصد تقلباته وفهم ثوابته ومتغيراته.
وفقه المآلات
يعتمد على ثلاثة أسس رئيسية:
أ . استقراء
الجزئيّات لصياغة الكليات11.
ب . فقه سنن
القرآن في الأنفس والمجتمعات والحضارات قياما وسقوطاً.
ت . الاعتماد
على آليات النظر الاستراتيجي المعتمد في الدراسات الاستراتيجية والمستقبلية
المعاصرة.
أما الأساس
الأول فهو يعتمد على قراءة متأنّية وعميقة للأحداث التي شكلت المواقف السياسية
والأنماط الاجتماعية والثقافيّة للمجتمع الذي نعيش فيه. وقد أثبتت الدراسات
الاجتماعية أن المجتمع يتكون من أنماط ثقافية وعرفية إلزامية وأخرى غير إلزامية12.
بل إن الأعراف الإلزامية على حد تعبير سامنر قراهم (1510-1840) هي التي تحدث
التغيير الاجتماعي وليس العكس13، وأنها قوة اجتماعيّة من الصعب جداً تغييرها بعد
استحكامها في المجتمع14.
ولذلك
فالداعية في حاجة إلى استقراء جزئيات الواقع وتحديد العوامل التي تؤثر في مساره
كما يحدد عالم الاجتماع الأنماط السلوكية للمجتمع15. وإذا كان علم الاجتماع قد حدد
عناصر الثقافة في ثلاثة عناصر وهي اللغة والعادات والقيم16، فإن الداعية المسلم في
حاجة إلى الارتقاء إلى المستوى الحضاري في تحديد الإطار العام لعناصر الثقافة وهو
الإطار الحضاري الإسلامي الذي يجعل من الدين الوحدة الأساسية لتحليل الأحداث
الجزئيّة والكلية، أو على حد تعبير مالك بن نبي -استخدام الفكرة الدينية لتفعيل
عناصر الحضارة وهي الإنسان والتراب والزمن.
فالذي يستقرئ
الأحداث في صيرورتها وتقلباتها كما فعل ابن خلدون والمودودي ومالك بن نبي يمكنه أن
يصوغ "كليات" فكرية وعلمية بإمكانها ترشيد الفكر الإسلامي ومن ثم الدعوة
الإسلامية. فالتاريخ بهذه الطريقة يصبح المرآة التي تعكس كثيرا من السلوك
الاجتماعي المستقبلي والمؤشر الذي يستطيع أن يتنبأ بتكرر الماضي ولو في صورة
جديدة.
أما الأساس الثاني
من أسس فقه المآلات فهو فقه السنن الكونية والحضارية التي تضمنها القرآن وهو يفسر
لنا قيام وسقوط الأمم والحضارات. فلقد زخر القرآن الكريم بجملة من سنن قيام وسقوط
الحضارات كثيرا ما نغفل عنها ونحن ننظر للتغيير الإسلامي المنشود. وليس العيب في
الجهل بها بل في الغفلة عن طرق الالتزام بسنن القيام والاقتراب من سنن السقوط.
إن فقه
المآلات الدعوية يوجد مؤصلاً في قوله تعالى: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا
ما بأنفسهم)17، وهو قانون يربط بين السبب والمسبب. فالأسباب التي ذكرها القرآن
كالظلم والتكذيب والمعاصي وانتشار الفواحش كلها تؤدّي إلى مسبباتها ألا وهي الهلاك
والتمييز بقوله تعالى:
- (قد خلت من
قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذّبين)18.
- (وما
أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير)19.
- (وما كنا
مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون)20.
إن هذه
الآيات تزودنا برؤية مستقبلية لما سيكون عليه حالنا إن سقطنا في أتون الظلم
والتكذيب والمعاصي. وقد يكون العاملون في الحقل الإسلامي بعيدين عن التكذيب
والمعاصي ولكنهم ليسوا بمنأى عن الظلم في صورة من صوره. إن ما يعرف بأمراض الدعوة
اليوم كالشخصانية والتسلط وغياب الشورى عند البعض والتناحر على المناصب القيادية
في المؤسسة الدعوية، كلها من الظلم التي تسبب الفرقة والتنازع والفشل في آخر
المطاف، وهي بالتالي سنن السقوط.
أما عن سنن
القيام والرقي الحضاري فقد ذكر القرآن سنة التقوى في قوله تعالى:
- (ولو أن
أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض)21.
سنة العبادة
في قوله تعالى:
- (وعد الله
الذين أمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم
وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدوني لا يشركون
بي شيئاً)22.
أما الأساس
الثالث، فهي دعوة للاستفادة من آليات الدراسات الاستراتيجة والمستقبلية التي
تستخدمها اليوم الدول والمراكز الخاصة بذلك. فإن معظم الدوائر السياسية
والاقتصادية تعتمد على مؤشرات تبنى عليها خططها التنموية، وترسم على ضوئها سياستها
المالية تساعدها على تحقيق التنمية المستدامة وضمان الاستقرار العام. فما أحوج
الدعوة إلى مثل هذه المراكز التي تحول موضوع الدعوة إلى علم قائم بذاته وله مؤشرات
قياسية تنبئ بمسيرته المستقبيلة دون الوقوع في أخطاء أو أزمات قد لا تستطيع الدعوة
الخروج منها، أو قد تضيع مكاسب عقود من العمل الدعوي لترجع في النهاية إلى نقطة
الصفر، وهو ما سمي في بعض أدبيات الحركة الإسلامية بظاهرة التراوح في العمل
الإسلامي.
وحري
بالدّعاة أن يربطوا بين الفعل ومآله على ضوء القواعد الشرعية كقاعدة "الخروج
من الخلاف مستحب"23. لأن ما نخر في جسم العمل الإسلامي في مراحل المغالبة هو
كثرة الخلاف المفضي إلى النزاع خصوصاً عندما يتم الخلط بين الدعوي والسياسي وتحديد
مجالات كل منهما. ففي خضم التمكين للدّعوة اجتماعيا وسياسياً، يطفو على السطح سجال
بين من يفضلون العمل الدعوي والتربوي معتبرين المعترك السياسي ساحة تؤثر على الدّعوة
الإسلاميّة سلباً، وهم بذلك يؤيدون نظرية الامتداد القاعدي ببعديه الشعبوي
والنخبوي. ويرى فريق آخر أن السياسة وسيلة لخدمة الدعوة، ولأنّها تختصر الطرق،
وتجعل رجالات الدعوة يتكلمون من موقع قوة، فيأمنون للدعوة ساحات جديدة، ويمدونها
بموارد معنوية وحسيّة لم تكن تحلم بها وهي بعيدة عن السلطة. وهذا الموقف الأخير هو
الذي فجر أزمة في أوساط الحركة الإسلامية وشبابها. إذ غالباً ما يفسر العمل
السياسي الإسلامي على أنه ارتماء في أحضان واقع بعيد عن شرع الله غالبا ما يفضي
إلى تفريغ الدعوة من محتواها واحتواء رجالاتها والتأثير عليهم بإعطاء جملة من
التنازلات كان يعدها الدعاة قبل المشاركة السياسية من الثوابت المقدسة.
وكلا
الموقفين بحاجة إلى إدراك مآلات أفعالها، فقد يؤدي العمل السياسي الإسلامي إلى
تفريغ الدعوة من محتواها الشمولي المهيمن، وقد يؤدي إلى خوض تجربة مريرة من خلال
الفشل في النجاح السياسي وكسب ثقة الجماهير، هذا إن كان لرجالات الدعوة برنامج
سياسي يُطرح كبديل عن النظام السياسي القائم.
كما يؤدي
العمل السياسي الإسلامي إلى تكون زعامات قذفت بها الأحداث المتسارعة إلى قمة هرم
القيادة وهي لم تمر على أي مرحلة من مراحل التكوين الدعوي. وأخطر ما يمكن أن يؤدي
إليه العمل السياسي الإسلامي هو مشكلة استعجال قطف الثمرة بإقامة الدولة الإسلامية
أو الخلافة الإسلامية كما يعبّر عنها كثير من الشباب المسلم. إن هذا الاستعجال
يرسل رسالة واضحة إلى السلطات القائمة أن وقت المحاسبة قد حان، وأن شعار "من
أين لك هذا" سيزج كثيرا من أفراد النظام القائم في السجن.
وقد استعجل
بعضهم في بعض المناطق التي آل فيها الحكم إلى التيار الإسلامي والتي تتمتع بتنوع
عرقي وديني، إذ لم تمض أسابيع على فوز هذا التيّار في الانتخابات حتى نادى مناد
بفرض الخراج على غير المسلمين، ونادى حزب آخر بعد فوز نسبي في الانتخابات بضرورة
الجهاد لإسقاط النظام القائم. وتوعد آخرون أنه في حالة الفوز سيحاسب بعض الناس شر
حساب، ويفعل بهم مثل ما فعل ببعض الدكتاتوريين الأوربيين. وما من شك أن كل هؤلاء
لم يدركوا مآلات أقوالهم فانتهى بهم الأمر إلى التصادم والعنف وحصاد مئات الآلاف
من الأرواح.
فلو خرج
أقطاب التيار الإسلامي من الخلاف وخصوصا إذا تعلقت به أرواح الأبرياء لكان خيراّ
لهم. ولو استرشد الدّعاة في هذ المضمار بقاعدة "درء المفاسد أولى من جلب
المصالح" لعلموا كيف يضمنون مآلات إيجابية لأفعالهم ومصالح كبرى لأمتهم بدل
مصالح جزئية لا تفي بالأهداف الكبرى والمشروعية العليا للإسلام. يقول الدكتور
البيانوني:
"يحتاج
إليها (قادة درء المفاسد) الدعاة كثيراً في موازناتهم الدعوية، ولا سيّما عند
تعارض المصالح والمفاسد، وعدم إمكان الجمع بين تحقيق المصلحة ودرء المفسدة... فكثيراً
ما يندفع بعض الدّعاة إلى تحقيق مصلحة دعوية في اجتهادهم، غافلين عن المفاسد
المترتبة على ذلك، مما يجعلهم في نهاية الأمر نادمين على ما أقدموا عليه"24.
د. غياب فقه
الموازنات ودرء تعارض المصالح والمفاسد.
فقه
الموازنات هو ذلك الفقه الذي يتعامل مع المصالح المتعارضة، أو المفاسد المتعارضة،
أو المصالح المتعارضة مع المفاسد25. فالمصلحة بوصفها مقصود الشريعة من التشريع
تختلف باختلاف مراتبها، فمنها الضرورية، ومنها الحاجيّة، ومنها التحسينيّة. وقد
تتعارض هذه المراتب فينقسم الضروري على الحاجي والحاجي على التحسيني كما قرر ذلك
الأصوليون. ومن المعروف أيضاً أن المصالح الضرورية قد تتعارض فيقدم حفظ الدين على
النفس، والنفس على العقل، والعقل على النسل، والنسل على المال26. ويعرف فقه
الموازنات بفقه الأولويات، وقد رأى الشيخ الدكتور القرضاوي تداخلاً في المصطلحين،
لأن الحديث عن تحديد الأولويات يقتضي ضمناً الحديث عن فقه الموازنات27.
وهناك حاجة
ماسّة إلى فقه الموازنات على جميع الصعد الفرديّة والاجتماعيّة والدولية.
"فإذا غاب عنا فقه الموازنات فقد سددنا على أنفسنا كثيراً من أبواب السعة
والرحمة، واتخذنا فلسفة الرفض أساساً لكل تعامل... وسيكون أسهل علينا أن نقول:
(لا) أو (حرام) في كل أمر يحتاج إلى إعمال فكر واجتهاد. أما في ضوء فقه الموازنات
فسنجد هناك سبيلاً للمقارنة بين وضع ووضع، والمفاضلة بين حال وحال، والموازنة بين
المكاسب والخسائر.. ونختار بعد ذلك ما نراه أدنى لجلب مصلحة ودرء مفسدة"28.
أما في
المجال الدّعوي، والحاجة قائمة وماسّة إلى فقه الموازنات. إذ قد تلوح للحركة
الإسلاميّة مصالح فتسعى لتحقيقها ومفاسد تسعى لدرئها، ولكن الرؤى تختلف في تقديم
مصلحة على أخرى أو درء مفسدة على أخرى. فإذا حصل ذلك تتعطل المشاريع ويتقهقر العمل
الإسلامي ويتحول طلب المصالح إلى طلب المصالح الشخصية،فضلا على أنه إذا
"أغفلت حركة الإصلاح فقه الموازنات فإنها تقع في أخطاء فادحة، وخسائر كبيرة،
لأن ما يحيط بها اليوم من أوضاع صعبة وتعقيدات جمّة، وملابسات خطيرة يجعلها بحاجة
إلى العمل المنضبط الدقيق والبعد عن العشوائيّة والارتجال"29.
ولعل أهم ما
يجب على الدّعاة فهمه أولاً هو أن المصلحة المتوخاة في التخطيط للبرامج وتدبير
شؤون الدعوة هي المصلحة الشرعية، وإن كانت لا تعدو في الأصل أن تكون "عبارة
عن جلب منفعة أو دفع مضرة"30 ولكنها في إطار تحقيق العدل ونفي الجور كما أكد
على ذلك ابن قيم رحمه الله في "الإعلام"31. ولعل من أهم ما يجب على
الدعاة فقهه في هذا المضمار هو ما يلي:
1 . الموازنة
بين أعلى المصلحتين حكما:
ترتبط
المصلحة بالأحكام الشرعية الخمسة، فإذا كانت المصلحة من أدنى الرتب تعلق بها
الندب، وإن كانت من أعلى الرتب تعلق بها الوجوب32. فلو غلب على الظن الاقتصار فقط
على التربية والتكوين وشحذ الفعالية الحضارية للأمة من خلال إصلاح مناهج التفكير
وصياغة نظريات حديثة في التغيير والفقه الحضاري، لو غلب على الظن أن كل ذلك أنفع
وأصلح للدعوة من النزالات والمغالبات السياسية لتوجب التركيز على العمل التربوي
والفكري لبناء الإنسان الذي ينتج الأفكار الحية، والذي يسعى لتغيير نفسه حتى لا
يغير ما بحاله وفق السنن الكونية والرؤية القرآنية التي سبقت الإشارة إليها.
وإذا نُدب
للعمل السياسي مجموعة تمثل الصوت الإسلامي للاضطلاع بمهام سياسية نظراً لظروف المرحلة،
فقد أصبح في حقها واجبا عينيا وفي غيرها واجبا كفائياً ما دامت مصالح المسلمين
تتحقق بوجود من هو أهل لها في مواقع القرار. أما وأن تهبّ كل الحركات الإسلامية
للمطالبة السياسية تاركين الدعوة لمن ليس هو أهلاً لها، فهو من باب تقدير مصلحة
مرجوحة على مصلحة راجحة، وخلط بيّن في سلّم الموازنات المصلحيّة.
2 . الموازنة
بين أنواع المصالح:
أنواع
المصالح الضرورية خمسة أجملها العلماء ذكراً لا حصراً مجمعاً عليه في خمسة: حفظ
الدين، وحفظ النفس، وحفظ العقل، وحفظ النسل، وحفظ المال33. وتقرر القول في الدرس
الأصولي أن أعلى هذه الرتب نوعاً يقدم على أدناه. ولو تأملنا في واقع حياة الناس،
لوجدنا هذه الأنواع تتعارض في معاملاتهم ومشاريعهم بل حتى في أقضيتهم. وما أحوج
الحركة الإسلامية وشبابها إلى التدرب على كيفية تقديم مصلحة حفظ الدين على حفظ
النفس، وهذه الأخيرة على حفظ العقل وهكذا.
وإن ما
يحتاجه الشباب المسلم اليوم والمتحمس للجهاد مثلاً بوصفه تقديم الدّين على النّفس،
هو أن لا يقدم الدين على النّفس إلا إذا تعارضا ولا يمكن الجمع بينهما كشرط من
شروط دفع التعارض. أما إذا أمكن الجمع بينهما "فإعمال الأدلة أولى من
إهمالها"، كما قرر ذلك الأصوليون. فإنه لا يصار إلى الجهاد إلا إذا غلب على
الظن على أن مصلحة الدين ستحفظ، ولذلك شرع الكرّ والفرّ في ساحة المعركة حماية
للأنفس إذا تأكد أن الجهاد لا يحقق مقصده وهو حفظ الدّين.
فلقد تراجع
النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد عندما أحيط به وأمر من تبقى أن يصعد الجبل حتى
لا يلحق بهم الكفار ويقتلوهم. وقبلها لم يأذن النبي صلى الله عليه وسلم بالجهاد
بالرغم من إلحاح الصحابة عليه -رضي الله عنهم- حماية للطليعة المؤمنة التي كان
يهيؤها للفتوحات الإسلامية ونشر كلمة التّوحيد بحد الكلمة لا بحد السيف.
يقول العز بن
عبد السلام: "فإذا لم تحصل النكاية وجب الانهزام لما في الثبوت من فوات
النفوس مع شفاء صدور الكفار وإرغام أهل الإسلام، وقد صار الثبوت هنا مفسدة محضة
ليس في طيّها مصلحة"34.
3 . الموازنة
بين المصالح العامة والمصالح الخاصّة:
تقرر القول
لدى العلماء أن المصلحة العامة تقدم على المصلحة الخاصّة "لأن اعتناء الشارع
بالمصالح العامة أوفر وأكثر من اعتنائه بالمصالح الخاصّة"35. وعلى هذا تقدم
أعم المصلحتين على أخصهما، وتقدم مصلحة الجماعة على مصلحة الفرد ومصلحة الأمة على
مصلحة الجماعة، ولأن في رعاية المصلحة العامة رعاية لحق الفرد ذاته36.
ولعل
العاملين في حقل الدعوة هم أحوج الناس اليوم للموازنة بين هذين النّوعين من
المصالح. فنحن في حاجة مثلا إلى غرس قيم التطوع في العمل الإسلامي من أجل دفع عجلة
الدعوة إلى الأمام. فالذي فتر عن الدعوة ينشغل كلية بأموره الخاصة، فلا تجده يأمر
بمعروف ولا ينهى عن منكر ولا يحز في نفسه ظهور الفساد في البر والبحر واستفحال
الظلم والقهر هو في الحقيقة يُقدم مصلحته الخاصّة على المصلحة العامة. فهو يقرأ
وصيّة النبي -صلى الله عليه وسلم- في باب الفتن في آخر الزمان قوله: "ولو أن
تعض على جذع شجرة حتى يأتيك الموت"، يقرأ هذه الوصية بنفسية المنهزم المستسلم
الذي ينزع إلى الخمول، ويتخذ من فهمه العليل للنصوص مطية للانعزال والفتور إن لم
يكن سقوطاً على طريق الدعوة.
أما النموذج
الثاني من الدعاة فلا يعطي للدعوة إلا فضول أوقاته، وغالبا ما يؤدي واجباته
الدعوية على مضض كأنه عمل إداري ينتهي بانتهاء ساعات الدوام. وهناك نموذج آخر
يتطوع إذا ارتبط ذلك بمصلحته الشخصية. ولعل أفجع ما شهدته الساحة الدعوية هو تعلق
بعض القادة الحركيين بمناصبهم واستفراغ الوسع في حرمان الأكفأ والأصلح من ذلك
المنصب القيادي. وكثيرا ما ينتهي الأمر إلى تنحيته بالقوة، أو يحصل انقسام فتخرج
عن الجماعة الأم جماعات جنينيّة تكبر مع مرور الزمن لتزيد الأمة انقساما على
انقسامها. وهذا الذي يسميه بعض المفكرين بظاهرة الاستبداد في العمل الإسلامي التي
إن تفشت في أوساط الشباب المسلم قدمتهم نموذجاً سيئاً للمجتمع بدل أن يكونوا قدوة
تتطلع الناس لقيادتهم يوما ما.
4 . الموازنة
بين أدوم المصلحتين نفعاً:
ليست كل
المصالح على وزان واحد في النفع، فمن المصالح ما هو أدوم من غيرها من حيث الزمن.
ويصب هذا العنصر في صميم العمل الإسلامي. إذا أن الأصل حصول التغيير ودوامه وليس
المصلحة فقط وإن قل الجهد الذي كان سببا في هذا التغيير. فكما قال النبي صلى الله
عليه وسلم: "أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل"37.
وهذا الفقه
له علاقة مباشرة بالتخطيط للبرامج الدعوية والخيرية، إذ تنزع بعض الجهات إلى تكثيف
نشاطاتها في مرحة ما، لتجد نفسها فاترة في المرحلة اللاحقة. أو أنها مغرومة
بالأنشطة الكبيرة الاستعراضية بدل الأنشطة النوعية التكوينية. أو أنها تستعجل وضع
أفراد لم يتم استيعابههم بشكل جيد في مراكز قيادية يكونون سببا في كثير من الفتن
والانقسامات الداخلية التي تنخر جسم الجماعة. فكلما تدرج العامل في سلّم التكوين
بطريقة طبيعيّة دون حرق المراحل، كلما ضمنّا تواصلا طبيعيّا وفعّالاً بين القيادات
الجديدة والقديمة.
5 . الموازنة
بين المصالح والمفاسد:
ذكر الإمام
الغزالي أن "المصلحة: المحافظة على مقصد الشرع، ومقصد الشرع من الخلق خمسة،
وهو أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم وتدر لهم مالهم، فكل ما يتضمن حفظ هذه
الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة ودفعها مصلحة"38
.
إن من أهم ما
تختلط فيه الأمور على النّاس هو تعارض المصالح مع المفاسد. وبالرغم من أن الناس
مفطورون على جلب مصالحهم ودرء مفاسدهم، إلا أن بعضها منهم يحرص على جلب مصلحة ولو
أدّى ذلك إلى حصول مفاسد جسيمة.
يقول
السيوطي: "درء المفاسد أولى من جلب المصالح، فإذا تعارض مفسدة ومصلحة قدم دفع
المفسدة غالباً، لأن اعتناء الشارع بالمنهيات أشد من اعتنائه بالمأمورات"39.
ويقول ابن تيمية: "إذا تعارضت المصالح والمفاسد، والحسنات والسيئات، أو
تزاحمت، فإنه يجب ترجيح الراجح منها فيما إذا ازدحمت المصالح والمفاسد، وتعارضت
المصالح والمفاسد، فإن الأمر والنّهي وإن كان متضمنا لتحصيل مصلحة ودفع مفسدة
فينظر في المعارض له، فإن كان الفعل يفوت من المصالح أو يحصل من المفاسد أكثر لم
يكن مأموراً به، بل يكون محرّماً إذا كانت مفسدته أكثر من مصلحته. لكن اعتبار
مقادير المصالح والمفاسد هو بميزان الشريعة فمتى قدر الإنسان على اتباع النصوص لم
يعدل عنها وإلا اجتهد برأيه لمعرفة الأشباه والنظائر"40 .